7. الكون بلا مكوِّن .. والدِين لم يدوِّن

معضلة الخلق
عمر الكون
قوانين الكون

__________________________

معضلة الخلق

{.. خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ..}25|59
{.. خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ […] وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ • ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ • فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ..} 41|9-12

بحسب القرآن، خلق الأرض استغرق يومين، وما فيها من رواسي وأقوات 4 أيام؛ أما “السماوات” فأخذت يومين فقط، فالنجوم مجرد “مصابيح” (كما هو مذكور في القسم 2) ولا حاجة لأكثر من يومين!
هل المجموع 6 أيام أم 8 أيام؟ ولماذا يحتاج خلق كوكب الأرض وقتًا أطول من خلق “السماوات”.. التي فيها نجوم وكواكب ضمن مجموعات شمسية ضمن مجرّات لا تحصى؟ لا بد أن المؤلفين كانوا يتصورون نِدّيّة وتقاربًا في الحجم بين الأرض و”السماء”. لقد ظنوا أن “اللـه” بدأ الخلق من الأرض.. ثم توجّه إلى “السماء” “وَهِيَ دُخَانٌ” “فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات”. لكن الأرض كوكب ضئيل في إحدى المجموعات الشمسية ضمن إحدى المجرات، ليست قاعدة بناها “اللـه” ثم انطلق إلى “السماء”.

النص السابق يقول أن “اللـه” خلق الأرض أولاً “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ”. ويؤكده النص التالي:
{.. خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ..} 2|29
معنى “مَا فِي الْأَرْضِ” يُفهم من قوله:
{.. وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} 31|10
فنجد أنه يشمل الحيوان (كل دابّة) والنبات. إذن “خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا” بما فيه من حيوان ونبات، “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ”. ونص آخر يقول:
{.. السَّمَاءُ بَنَاهَا • رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا • وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا • وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا • أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} 79|27-31

إذن هو بنى “السماء” “فَسَوَّاهَا”، ثم الأرض “أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا”. وبحسب هذه النصوص يكون الترتيب هكذا:
خلق الأرض -> الحيوان -> النبات -> تسوية “السماء” -> إخراج الماء والمرعى.
وهذا يعني أن “اللـه” ترك الحيوانات يومين، ثم أخرج لها الماء والمرعى. فلماذا أوجدها أولاً، وتركها تعطش وتجوع بينما يُنبت النبات ويعمل على السماوات ثم الماء والمرعى؟ الأَولى أن يُخرج الماء والمرعى أولاً ثم يوجِد الحيوانات.

عمر الكون

عمر الكون في الأديان الإبراهيمية لا يتعدى بضعة آلاف سنة:

القرآن يقول: {.. خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ..} 25|59

والقرآن يعترف بصحة “الكتاب المكدّس” إلا ما حرّف منه:
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ..} 5|48
والتحريف مستبعد في نصوص تسرد قصة الكون:

{وَدَعَا اللهُ النُّورَ نَهَارًا، وَالظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلًا. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا وَاحِدًا. […] وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا سَادِسًا. • فَأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا. […] هذِهِ مَبَادِئُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ، يَوْمَ عَمِلَ الرَّبُّ الإِلهُ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ. • كُلُّ شَجَرِ الْبَرِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ فِي الأَرْضِ، وَكُلُّ عُشْبِ الْبَرِّيَّةِ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ، لأَنَّ الرَّبَّ الإِلهَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَمْطَرَ عَلَى الأَرْضِ، وَلاَ كَانَ إِنْسَانٌ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ. • ثُمَّ كَانَ ضَبَابٌ يَطْلَعُ مِنَ الأَرْضِ وَيَسْقِي كُلَّ وَجْهِ الأَرْضِ. • وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً • وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ.} سفر التكوين 1|5-31، 2|1-8

قوله “وَدَعَا اللهُ النُّورَ نَهَارًا، وَالظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلًا. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا وَاحِدًا.” دليل على أن الأيام الستة هي أيام أرضية بنفس طول أيامنا. وقوله “وَلاَ كَانَ إِنْسَانٌ” دليل على أن آدم كان أوّل البشر على الأرض.

والقرآن يقول: {.. خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ..} 2|29
وبما أنه خلقه “لَكُمْ”، أي للبشر، فليس من الحكمة ترك ذلك الخلق ملايين السنين عبثًا. لا بد أنه خلق آدم بعد خلق ما في الأرض فوريًا.

السرد القصصي في الكتاب المكدس متواصل، ولم يلمح إلى شيء يسمح بوضع احتمالية مرور فترة طويلة بين خلق الأرض وخلق آدم.
إذن، عمر الكون في الأديان الإبراهيمية معادل للخط الزمني للبشر؛ وبحسب السرد التوراتي.. هو 6000 سنة تقريبًا. [1]

لكن البراهين العلمية أثبتت أن عمر الكون مليارات السنين، وأن الأحياء، ومنها البشر، تكونت بتطور بطيء بدأ من كائن وحيد الخلية وامتد لمئات الملايين من السنين.

قوانين الكون

قوانين الكون.. منها بقاء الطاقة وبقاء المادة (أن الطاقة والمادة لا تفنيان ولا تستحدثان من العدم،) [2] وتوازن القوى (لكل قوة فعل قوة رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه،) [3] والتجاذب والتنافر، والتمدد والتقلص، والانصهار والتجمد. ونظرية الحتمية السببية.. هي أن كل شيء أو حدث هو نتيجة لسبب ما. [4]

هذه القوانين (النواميس) والنظريات والكثير غيرها، هل تؤيد فرضية وجود صانع للكون أم تعارضها؟

أنا لاأدري، أي أني أتبنى موقف اللاأدرية، وهنا أطرح وجهتيّ النظر.. الربوبية واللاربوبية.

من يعتقد بوجود صانع.. يرى أن هذا نظام دقيق وتصميم عاقل مرتب متقن؛ ويستنتج أنه لا بد له من صانع قدير (هو السبب الأول).

أما من وجهة نظر من لا يعتقد بوجود صانع.. فيبدو الأمر مختلفًا:

أولاً: لو أخذنا برأي المؤمنين.. فلنا كذلك أن نتساءل كيف أتى هذا الصانع إلى الوجود؟ هل هو أزلي ليس قبله شيء؟ هذا غير منطقي، ينافي الحتمية السببية وغيرها. بما أن كل شيء هو نتيجة لسبب، ما هو السبب الذي أتى الصانع كنتيجة له؟ ولنا أن نفترض أنه بمواصفاته الممتازة وقدراته العظيمة وما له من سمع وبصر وحواس بها يحيط بالكون علمًا، وجوارح بها يخلق ويبرأ ويصوّر.. لا بد أن له صانعًا أعظم منه!
إذا لم يكن للفرضية الثانية مبرر.. فلا مبرر للأولى. بدلاً من افتراض وجود صانع خارجي.. هو الأول ليس قبله شيء.. من الأَولى أن نفترض أن الكون هو الصانع؛ كوّن نفسه، وهو يتوسّع ويتطوّر ويزداد ذكاء وتعقيدًا بمرور الزمن. (وَمَا قَدَروا الكَونَ حَقَّ قَدْرِه.)

إن التشابه بين بنية الكائن الحي (وغير الحي أيضًا) وبنية الكون، وكأنه نسخة مصغرة منه.. فيه دلالة على أن الكون يطوّر نفسه من خلال الكائنات، وأن الكائن ليس بمخلوق خلقه خالق ما، بل هو جزء من كوكب، والكوكب جزء من الكون، ينبثق الصغير من الكبير كما ينبثق من الشجرة غصن ومن الغصن ورقة أو زهرة أو ثمرة.

ثانيًا: نظرية الانفجار الكبير ليست بدليل على وجود صانع. هي نظرية افترض كثير من الناس بناءً عليها أن للكون بداية. لكن هذا لا يقتضي أن كائنًا ما أحدث تلك البداية.

لو كان للكون خالقًا سَنّ قوانينه.. فالمفترض أن هذا الخالق.. خارق، متفوق على الطبيعة، قادر على خرق قوانينها. لكننا لم نر أو نسمع عن أي حدث حقيقي خارق للطبيعة.
تدل قوانين الكون على أنه ليس له رب يخلق ما فيه ويدبّر أموره. لو كان هذا حقًا.. لَتدخّل هذا الرب في مُجريات الكون، ولأحدث أمرًا جديدًا من حين لآخر، ولكان له تأثير مميّز في أرجائه.

أيّ رب هذا الذي صنع كونًا خاويًا باردًا مظلمًا وتركه هكذا طوال مليارات السنين.. كُتل جرداء تحترق وتخبو وتجول في فضاء بلا فائدة؟
لماذا كل هذا الهدر في المواد الخام؟ ولماذا لم نرَ أو نسمع عن شيء استُحدث من العدم؟ هل مات هذا الصانع دون إكمال مشروعه؟

ثالثًا: كما يبدو، لا وجود لتنظيم إداري أو هندسي؛ لا شقق ولا فلل سكنية في الكون، ولا ما هو أبسط من ذلك، بحيث يدل على وعي وتخطيط وفعل فاعل عاقل. تشكُّل الكون له مدى زمني طويل، وهو حين نشأ لم يكن منتظمًا. انتظم جزئيًا خلال مليارات السنين، وما زالت تعمه العشوائية. إنما هو تجاذبات وطرد مركزي وكتل متناثرة تحترق وتخمد. لا وجود لمبرر منطقي كافٍ للاعتقاد بأن هذا فعل فاعل عاقل.

الأحياء بتفاصيلها المعقدة، ومنها الإنسان الذي أقام التنظيم الإداري والهندسي، لم يخلقها أحد، وإنما هي نتاج تطور بطيء جدًا على مدى مليارات السنين.

لو كان للكون صانع عاقل.. لوجدنا فيه تنظيمًا وعمرانًا وتفاصيل تفوق ما أنجزه الإنسان في القرون الماضية. بهذه المقارنة، لو كان هنالك من يستحق التأليه.. فهو الإنسان.. على الأقل في هذا الكوكب.

بناء على ما تقدم.. يمكننا افتراض أن استمرار الكون بالسببية وبقوانين داخلية ثابتة دائمة.. يدل على أنه ذاتي الوجود والتنظيم، بلا أي تأثير خارجي.

كلما تمكن العلم من تفسير المزيد من بنية الكون وظواهره.. قل حيّز فرضية وجود خالق له.

 

أقسم بالنجم إذا هوى
أنّ القوم يتّبعون الهوى
كالصحراء بتطرّفها وَ
سوف أقولها على الهوا

 

[1] عمر الكون – gotquestions.org
[2] ويكيبيديا – حفظ الطاقة (فيزياء)
[3] ويكيبيديا – قوانين نيوتن للحركة

[4] • Merriam-Webster Dictionary – Determinism
Encyclopedia Britannica – Determinism